السبت، 14 نوفمبر 2015

عصر الإسلام الذهبي: عصر مشع خلال العصور المظلمة

العالم الفارسي أبو بكر الرازي (٢٥٠هـ-٣١١هـ) يعمل في مختبره.

أجد التاريخ أخّاذاً وسحرياً، فلفكرة أن كل تلك القصص قد حدثت على نفس الأرض التي تحت أقدامنا حس جذاب. أحد الأسباب التي تجذبني إليه أيضاً هو حبي للفن الذي دائماً ما أجد جذوره بين صفحات التاريخ في اللوحات والملابس والمباني. السبب الآخر الذي يهمنا في هذا المقال هو التعلم من الماضي ودروسه. فكيف كان لقومٍ أن ينهضوا، وكيف كان لاخرين أن ينحطوا؟

في العصور المظلمة طغى الجهل على أوروبا وعاش الناس في عمى وظلام. ما اشتهر هذا العصر به هو انحدار في التطور والحالة الاقتصادية، وكان ينظر للعلم أنه وحش يسلب نور الدين من العيون فانتشر الجهل ومعه الحروب. ولكن كان هناك مكانٌ تصله خيوط الشمس الذهبية.. كان ذلك المكان الشرق الأوسط. 

خلال تلك العصور قدمت الجيوش الصليبية لإستعادة فلسطين من أيادي تلك المخلوقات "الهمجية" التي كانت تدعى بالمسلمين. غشت عيون الجنود الصدمة عندما وصلوا لأنهم لم يجدوا تلك المخلوقات التي توقعوها، بل وجدوا قوماً متحضرين حِسان الملبس والذوق، وكانوا –الجنود الصليبيين- مقارنةً بهم كالهمج بملابسهم وسوء أخلاقهم. مساجدٌ جميلة، ونوافير تزين الحدائق التي امتلأت برائحة أشجار البرتقال، والمكاتب والمدارس في كل مكان.

امتد عصر الإسلام الذهبي من القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر الميلادي، وشهد تحسناً ملحوظاً في نواحي عديدة، وكان نقطة تحولٍ كبيرة لما شهده من تطورٍ كبير وتقدم على يد العلماء المسلمين في شتى أنواع العلوم، وكانت أعمالهم سبباً لنهضة الدول الأوروبية في القرن الرابع عشر لاحقاً. على عكس العلماء في أوروبا، كان الدين دافعاً للمسلمين للتعلم والتحضر. مفهوم أن التأمل في خلق الله عبادة -في ديننا الإسلامي الذي أمر بالقراءة- زاد حماس المسلمين لإكتشاف العالم أكثر، وكلما تعلموا أكثر كلما شعروا بأنهم أقرب إلى خالق هذا الكون العظيم. بينما في أوروبا كانت الكنائس لا تتوافق مع العلم ولا علمائه لأنهم يتخالفون معهم في نظراتهم.

بعد أن حصل العباسيون على الحكم، وبعد تغيير عاصمة الحكم أكثر من مرة قرروا أخيراً بناء عاصمة جديدة وكانت بغداد في أرض العراق، وكانت هذه البداية لهذا العصر المذهل الذي كان نتاجه ثماراً حلوة قد أوصلت العالم إلى ما هو عليه الآن. 

في حوالي عام ٢١٥هـ/٨٣٠م تم بناء بيت الحكمة في بغداد الذي جمع علماءً من دولٍ وحضاراتٍ ودياناتٍ مختلفة يجمعهم علمهم باللغة العربية. قُسم بيت الحكمة إلى ثلاث أجزاء: مكتبة، ومختبرٌ للبحوث، وأهم جزء فيها وهو قسم الترجمة. خلال السنين الأولى كانت الترجمة هي ما ركز عليه علماء بيت الحكمة لأنهم كانوا مؤمنين بأهمية التعلم من الحضارات القديمة التي سبقتهم باكتشافاتٍ وتجارب مختلفة. تم ترجمة الكثير من الكتب لمفكرين يونانيين مشهورين، وكتبٍ فارسية وكتبٍ من لغاتٍ اخرى متنوعة. بفضل هذه الكتب توسعت حقول المعرفة كالرياضات وعلم الفلك والطب والعديد من العلوم المختلفة. زخرت المكاتب في الدولة الإسلامية بآلاف الكتب المتنوعة، بعكس المكاتب في أوروبا التي كانت تحتوي على مئات من الكتب كحدٍ أقصى. بنيت المكاتب في كل مكان وانتشرت المدارس التي تعلم علوم الفلك والطب، مما ادى أيضاً إلى بناء مستشفياتٍ منظمة. بفضل انتشار العلم والتكنولوجيا الجديدة ازدهرت حالة الناس الاقتصادية وتطورت حياتهم في نواحي عديدة، وشهد ذلك العصر انخفاضاً في نسبة الأمية.

أسماء كثيرة لمعت خلال هذا العصر وكان أحدها جابر بن حيان الذي كان أحد العلماء المشهورين في ذلك الوقت. كان يدرس علوماً كثيرة، ولكن ما كان يجذبه كثيراً هو الكيمياء. تُرجمت كتبه إلى اللاتينية وأصبحت مشهورة بين العلماء الأوروبيين كثيراً، وشَرحت بعض المعدات التي لا تزال تستخدم في المختبرات اليوم. عالمٌ اخر اشتهر هو محمد بن موسى الخوارزمي الذي كان يعمل في بيت الحكمة ودرس علم الفلك والجغرافيا، وكانت أبرز أعماله في مواضيع الرياضيات، وقد كتب كتاباً يعد من أهم الكتب عن الجبر يدعى "المختصر في حساب الجبر والمقابلة." إسمٌ آخر برز في ذلك الوقت، ولا يزال بارزاً في وقتنا الحالي، هو ابن سينا الذي عُرف بلقب "أبو الطب الحديث" عند الغرب. كان له إنجازاتٌ استثنائية في أنواعٍ عديدة من العلوم وقد كتب ٢٠٠ كتاب في مواضيع مختلفة، وأشهرها هو كتاب "القانون في الطب" الذي عُرِف على أنه أشهر كتابٍ عن الطب في الشرق والغرب. الكثير من العلماء سطعت أسماؤهم في علوم مختلفة ولا يسعني شمل أسمائهم كلها، والتقدم الذي أنجزوه والعلوم التي بدأو بها كانت خطوات أدت إلى اكتشافاتٍ واختراعاتٍ لاحقه. 

إن ما أدى إلى هذا العصر الذهبي هو الشغف بالعلم الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه طريق إلى الجنة، وما كان لهؤلاء العلماء أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه لو لم يكن إيمانهم وتعلقهم بالله جل وتعالى كبيراً، ولا ننسى أنهم تعلموا من الحضارات السابقة التي ترجمت كتبها لتضاف إلى حقول العلم والمعرفة، وأنهم أيضاً اتحدوا وتعاونوا وتشاركوا برؤية واحدة.. هذه الصفات التي نفتقدها اليوم للأسف. العلم هو أحد معاني التفتح الذي تم اغتياله للأسف وجعل مربوطاً بكل ما هو سلبي. أين أنتم أيها المسلمون؟ يا من كان لكم يدٌ في نهضة الغرب الذي يبدو لكم الآن كالجنة. لماذا أنتم ضائعون في الظلام؟ تذكروا أن نور الشمس لن يصل من نفسه.

هناك 4 تعليقات:



  1. كان المناخ السائد في الشرق الاوسط مناخ علمي فكري ثري
    أوجد حضارة عالمية علمية راقية. من شدة ولع الخلفاء العباسيين بالعلم
    خليفة مثل هارون الرشيد كان يقبل بالكتب جزية بدل الاموال. والخليفة المأمون
    كان يطلب من ملوك البلدان الآخرى مخطوطاتهم وكتبهم النفيسة وإذا رفضوا هددهم بالحرب :D
    الشيء الاجمل اهتمامهم بالترجمة والمترجمين واشتهر بيت الحكمة كما ذكرتي في البوست بذلك

    رائع البوست يذكرنا بماضي جميل وعصر ذهبي للاسلام والمسلمين

    ردحذف
    الردود
    1. عصر رائع، وأتمنى لو نعيشه من جديد بإذن الله. شكراً لكِ عزيزتي.

      حذف
  2. لفتتني الجملة في البداية ، كل ما اروح مكان جديد لازم افكر اش المواقف اللي صارت بنفس هذا المكان من وقت ماخلق الله البشرية ؟ هل حرب طاحنة ، ولا عزاء ، ولا عرس ، ولا عقيقة مولود ... سبحان العالم بكل هذا ..❤

    ردحذف
  3. تدوينه رائعه سلمت يداك 🌷

    ردحذف